-A +A
محمد مفتي
من المؤكد أن التاريخ يشكل أهمية كبيرة لاستقاء الدروس والعبر وليس فقط للقراءة والتسلية، وقد يعيد التاريخ تشكيل وعينا وإدراكنا ونظرتنا للمستقبل؛ كونه مرآة تساعد على إدراك العوامل والأسباب الكامنة وراء صعود الحضارات وسقوطها، ولطالما شغل التاريخ أذهان المؤرخين خاصة فيما يتعلق بمصداقية بعض الأحداث والوقائع التاريخية، فنحن لم نكن معاصرين للأحداث التي حدثت قبل قرون، لكننا علمنا بها من خلال الكتب والوثائق والدراسات التي سردت تاريخها، ومما لا شك فيه أن الأحداث التاريخية التي حدثت قريباً من العصر الراهن –كتلك التي حدثت قبل عقود مثلاً- قد تسمح لنا بإمكانية التحقق من مدى مصداقيتها، فالمعاصرون لتلك الأحداث قد لا يزالون على قيد الحياة، إضافة إلى إمكانية التحقق منها من خلال قراءة مصادر متعددة تناولتها.

لعل أخطر ما في كتابة التاريخ هو تكريس فئة من الكتاب جهودها (حتى هؤلاء الذين يسردون التاريخ القديم) لتشويه صورة حضارات بأكملها عمداً للتأثير سلباً في الأجيال القادمة، كما أنها قد تكون محاولة طائفية لتحويل مسار التاريخ في اتجاه بعينه، لذلك تظل الأحداث التاريخية الأقدم رهينة لمدى موضوعية المؤرخ ومصداقيته، فالكثير من المؤرخين قد يفتقرون للدقة اللازمة لوصف الحدث، بينما يفتقر البعض الآخر للموضوعية نتيجة انحيازه لطرف دون طرف آخر، وقد يكون بعضهم مأجوراً أو تحرّكه دوافع معينة، وخلال كل ذلك قد يفقد القارئ قدرته على الحكم على الأحداث التاريخية وينساق وراء آراء المؤرخين المختلفة.


لعل المقولة الشهيرة «التاريخ يكتبه المنتصرون» تعدّ من أشهر المقولات المشككة في مدى مصداقية الكتب التاريخية، فالمنتصر لديه القدرة على إعادة كتابة التاريخ كما يحلو له، فقد يحذف انتصارات الخصم كاملة من تاريخ المعارك المتبادلة، وقد يجتزئ الأحداث ويخرجها من سياقها العام، كما أنه قد يعيد تفسيرها أو ترتيبها أو دلالتها على النحو الذي يحقق له النيل من خصمه، ونظراً لهزيمة الخصم فإنه لن يتمكن من الانتصار لقضيته أو شرح أعذاره ومبرراته، وسيبقى المنتصر منتصراً واقعياً ونظرياً أيضاً، وسيظل المهزوم مشوهاً منبوذاً دون أن يتمكن من الرد على ما سرده المنتصر.

لا شك أن هذه المقولة نظرياً صحيحة، فالتاريخ لا يكتبه بالضرورة المنصفون المحايدون، وكلما تباعد الزمن صعب تحديد مدى إنصاف وموضوعية الكتب التي تحكي الأحداث التي مرت عليها مئات السنين، وقد يعتمد الكثير منها على مصدر واحد يتداوله المؤرخون بمنطق «العهدة على الراوي»، وقد تنتشر الكثير من الأحداث وتكتسب شعبية ورسوخاً شديداً لمجرد تداولها وتوارثها بين عدد كبير من الناس في الوقت الذي قد تخلو فيه تماماً من الصحة، بل وقد تكون حدثاً أسطورياً لم يحدث من الأساس، وقد يتم إهمال بعض التفصيلات التي قد تغير الحدث تماماً عمداً أو جهلاً لاعتقاد الراوي أنها غير مهمة، غير أنه قد يتعمد إنكارها لأنها قد تغير النتيجة التي يرغب في التوصل إليها.

في اعتقادي أن بعض الكتب التاريخية سردت الأحداث بمنهج الناقل للحدث وليس بمنهج المعاصر له، والناقل قد لا يكون واحداً أو اثنين بل كثيرين، وقد يضيف كل منهم ويحذف وفقاً لرؤيته الخاصة للحدث، كما أن الناقل نفسه قد يكون غير منصف أو غير صادق، والمشكلة التي تتعلق بكتابة تاريخ أحداث ووقائع معينة حتى على لسان من عاصروها في أنها «قد» تتأثر بالآراء الشخصية للكاتب والتي من المحتمل أن تكون متأثرة بتحيزاته، والتي تؤثر بدروها على طريقة صياغته للحدث وما يتبعه من سرد لتفسيراته وتعليقاته وآرائه الشخصية البحتة، وهنا يصعب كثيراً فصل الحدث عن كاتبه ومفسره ومؤوله.

غير أنه في العصر الحالي ساهمت ثورة الاتصالات الحالية في توثيق اللحظات التاريخية المهمة بغاية البساطة بحيث يصعب الاختلاف على مدى صحتها، بفضل أدوات التوثيق الحديثة وأهمها التصوير واستخدام مقاطع الفيديو وسهولة حفظ المعلومات بكميات ضخمة وتداولها على نطاق واسع، أما في الأحداث القديمة جداً فإن القارئ هو الطرف الوحيد القادر على تفنيد ما يقرأ والحكم عليه بإنصاف دون تحيزات، ويتم ذلك من خلال مراجعته لعدة مصادر وعدة رواة عاصروا الحدث نفسه، بحيث يتمكن من كشف الثغرات التي تبدو متناقضة أو غير منطقية، وقراءة التاريخ بعين منصفة تحتاج إلى عقلية نقدية وقدرة على استشفاف ما بين السطور، كما ترتكز على الربط بين الأحداث والقدرة على التمييز ما بين المنطقي وغير المنطقي، ولا شك أن التاريخ يستحق هذا الجهد الكبير المبذول في تمحيصه والتدقيق في تفاصيله، فالتاريخ هو السجل المكتوب للحضارة البشرية، ومن خلاله تستطيع الأمم أن تصنع حاضرها وتبني مستقبلها.